الأول من أبريل و من قهوة بالقرب من محطة البحوث في مترو القاهرة بدأ المشوار ، فمحافظة كفر الشيخ أقصى شمال مصر و بالتحديد منطقة بلطيم حيث حبسنا هناك لمدة أربعة أيام.
ثم كان البحر، خمسة أيام في شيء أشبه بالخيال الذي إنتابته حالة من الجنون و شذراتٍ من يقين النجاة تتضائل كلما ساءت أحوال الطقس و تعاطي الربابنة بعض الحشيش لإخفاء توترهم و الهلع.
كانت إيطاليا أقصى الأمنيات و لكن عند إصطدام المركب الخشبي المتهالك و تمزق جزء منه في عملية نقل مهاجرين من آخر حديدي؛ تمزقت آخر الأمنيات و تقلصت في أمنية وحيدة رسمها الهلع الظاهر في وجوهنا و الآيات التي أنطلقت كدوي النحل من أفواهنا؛ ألا و هي العثور على يابسة قبل فوات الأوآن.
كما قلت سابقاً و سأظل أقول بعض الأشياء تحدث لا لشيء إلا لعدم إمتلاكها لأسباب منطقية تبرر حدوثها تماماً كإتخاذي لقرار ركوب البحر و كخلق جزيرة (Gavdos) اليونانية في هذا المكان بالتحديد لتكون سبباً في إنتشال 140 مجنوناً من على سطح عشرة أمتار من الخشب البالي أتخدو البحر طريقاً يؤدي إلي يوتوبيا مكانها في مخيلتهم فقط.
على العموم لم تكن أثينا مدهشة كما كنت أرها في الأفلام التي تحكي عن الأغريق القدماء؛ بل كانت كابوساً أخر يقارع البحر في الجبروت.
نصت الورقة التى سلمت لكل شخصاً منا على حدى بأنه إذا تخطى تواجدك في الأراضي اليونانية الستة أشهر – لبعض الجنسيات و ثلاثة لأخرى – فحامل هذه الورقة سيقضي بالسجن فترة العام و نصف العام..!
ثم و دون سابق إنذار بدا 140 مجنوناً كالمسعورين يبحثون عن طريق جدي للهرب من هذه الحفرة ذات الجدرآن المتحركة و التي تضيق كلما غربت شمس يوم أو طلعت شمس آخر؛ لتتحول إلى سجن حقيقي يتموضع في مكان فردوس أرض أحلامهم.
أربعة ألف يورو هي ثمن جواز سفر مزور للخروج المريح من اليونان بعد عدة محاولات تكون فيها الأموال عند ضامن حتى تنجح في الخروج أو تعاد أليك أموالك؛ و هي طريق المهاجرين الأثرياء من السوريين و بعض الأجناس.
طريق أخرى عبر التشبس أسفل سيارات الشحن حتى تستقر الأخير على ظهر الباخرة التي هي في طريقها إلى إيطاليا (الدِنقل) و هي مجانية و تعتمد فقط على الحظ و نسبة نجحها 2 من كل 10 محاولات مع خطورة الدهس أسفل الشاحنة.
و طريق معتدل نسبياً و هو بالمشي سيراً على الأقدام أو ( درب النمل). و له فرعان أحدهم من (حدود اليونان عبر أدغال دولة كل من ألبانيا ،الجبل الأسود ثم صربيا) و الفرع الأطول من (حدود اليونان عبر أدخال دولة مقدونيا فصربيا).
كان الطريق الأول الخيار و لكن نواميس الطبيعة أبت إلا أن نقضي أربعة أيام سيراً على الأقدام من نهاية الحدود اليونانية مع دولة مقدونيا حتى الحدود المقدونية مع دولة صربيا في رحلة يتعجب الجنون أن كيف لها أن تكون!
….
كانت بلغراد العاصمة الصربية بهية في طلعتها مع مظاهر حضارية تحاكي عواصم النصف الغربي من القارة العجور لولا قسمات الفقر المتفشية في كل دول أوربا الشرقية.
و تحققت نبوءة الفقر عندما أغلق قسم شرطة بلغراد أبوابه في و جوهنا- غداة ان قمنا بتسليم أنفسنا – بذريعة أن لا مكان لدي لأضعكم فيه كلاجئين فإذهبوا و أنتم الطلاقاء.
إذاً كان لا مفر أن نعيش حياة التشرد حتى بهتت ملامحنا _ أنا و رفيق دربي عمرو _ لمدة تجاوزت نصف الشهر في أحدى الخرائب المهجورة في غابات صربيا و بالقرب من معسكر لاجئين لا يقبل لاجئين!!
تدبرنا امرنا بوجبة واحدة في اليوم و تدبرنا أمرنا أيضا برحلة تهريب جديدة لعبور دولة المجر _دون بصمة دبلن _ و دخول النمسا.
كانت الرحلة هذه المرة مرتفعة التكلفة و لكن قليلة التعب و كل ما في الأمر سير من الساعة العاشرة ليلاً حتى الرابعة صباحاً – عبر الغابات الحدودية الفاصلة بين دولتي المجر و صربيا – ثم أتخذ التهريب بعداً جديدة بركوب سيارة تاكسي لتعبر المسافة الفاصلة بين العاصمة المجرية بودابست و عاصمة النمسا فيينا في خمسة ساعات أو أقل قليلا.
سبق و أن ترددت علي عبارة (ليالي الإنس في فيينا) و لكن لم أعرها إهتماما حتى رأيت فيينا رؤيا العيان!
لا أدري بما أصفها الآن و أنا لا أمتلك من اللغة الإ ثمانية و عشرين حرفاً لا غير!
فقط سأكتفي بأن أخبر سمائي السابعة التى سأتزوج منها – و لو في مخيلتي – بأن أول مكان سأأخذكِ إليه سيكون فيينا، و ذلك لأمر بسيط فهي كانت تمطر منذ أن وطئت أرضها و حتى رحلت و تركتها تمطر مطراً غرامياً خفيف.
بتنا ليلة واحدة فقط في فيينا بسبب الوجه العابس الذي إستقبلتنا به الجالية السودانية هناك!
بوصولنا فيينا تركنا كل العوالم الأخرى خلفنا و وضعنا أولى خطواتنا في العالم الأول الحقيقي لذلك كان من السهل علينا أن نأخد قطاراً و نصبح بليلتنا الثانية من العالم الحقيقي – في أرض ميعادي كما أظنها – و بالتحديد أقصى شمال ألمانيا ولاية سكسونيا السفلى مدينة هانوفر.
سأحتفظ بإحساسي و تفاصيل صدمتي الأولى و أنا في القطار و في طريقي إلى الحلم و لكن تعرفي على إثنين من الطلاب الألمان العائدين من النمسا إلى زويهم و حديثهم معي إمتص بعض ما أجد من صدمة لذا لم أشهق مغشياً علي عندما وضعت أولى خطواتي في رصيف قطارات محطة هانوفر.
بحلول الغد تكون قد مرت ثلاثون يوماً كاملة داخل جدرآن أرض الحلم برفقة رفيق المسافات الطويلة عمرو شرف الدين ، أحد أولئك الذين خرجوا سيراً حتى الوصول. و أذ لا أخفي عليكم حقيقة أنني إختلفت أنا و عمرو مراراً و تكرارا” و تشاجرنا و تلاسنا مرات لا تحصى و رُغماً عن هذا كنا نعود للحديث و تناول الطعام مع بعضنا البعض في أشد لحظات الغضب و كأن شيئاً لم يكن و كما يقول ناموس الشعر السوداني حميد:
(نخيّب ظن الصِدام)
**
و لكن تظل الأقدار هي الأقدار ؛ فعند الساعة الثامنة من صباح الغد سأشرع في الإنتقال إلى سكن جديد في (أوسنابروك_ Osnabrück) تاركاً ورائي مدينة (هيسيبي_Hesepe)
و العديد من الأشجان و أحاسيس الوصول الأول و صداقات حديثة أتخذت عمقاً دون حول منا و لا قوة ، في رحلة تستغرة دقائق معدودة بالقطار و لكنها قد تمتد لسنوات و سنوات في هذه المدينة. فهناك يتوجب على المستقبل أن يكون.
و لكن ورائي سأترك رفيق دربي الطويل – و الذي تقرر رحيله إلي مدينة أخرى و هي مدينة (أولدنبورج Oldenburg) في التاسع و العشرين من هذا الشهر و لكنه أختار عاصمة العشاق و الموضى باريس و آثر الرحيل و أظل أقول أن الخير فيما أختاره الله لنا.
يقول الأستاذ يحيى فضل الله:
* * *
قبل ما تختار طريقك
أبقى واثق من رفيقك
* * *
و قد كنت و لا أزال و سأظل و اثقاً من رفيق دربي عمرو. و داعا” حزينا يا رفيق دربي اللدود.
23/6/2015
———
ثم أعود كعادتي لهذياني القديم فأدندن و أقول:
…
هل بتضمن لو بقيت زول غيرك إنت
تاني ماتكون إنت ذاتك؟
هل بتضمن!
نفس أحزانك هواجسك
إنفعالاتك صفاتك
ياخي قول الذات هو ذاتك
هل حبيبتك راح تكون نفس البنية الكان هي جاتك؟
و أمنياتك
هل ح تفضل أمنياتك؟!
حاجة تشده
زي كأنك إتولدتا بعد مماتك!
و الغريبة بعد كبرتا
عرفتا إنك
إنت نفس الكنتا قبال تتولد
بل إنت نفس الزول بعد حدثت وفاتك
…
حاجة تبهر إنبهارك¡؟
قالوا مجنون و إختلف شكل إحتضارك
قلتا مجبر و ما قرارك
ألفا مجبر ما قرارك
لما أحزانك بتسبح في مدارك
و المآسي كمان تصفق كل ما حدث إنهيارك
مافي حل غير إنو تهرب من كمين ناحية حصارك
أو تهندم فكرة الموت شان تفاجئ إنتحارك
ألفا أبدا” ما قرارك
و الهواجس في إنتظارك